بيبسيبس

الخميس، 21 نوفمبر 2013

د. عمار على حسن يكتب: كلام الشيخ قد يقتل.. أما «الغازية» فترقص فقط

 التفت الأب إلى ابنه السلفى، العائد قريبا من أفغانستان، وراح يحكى له قصة الغازية قائلا: يمكننا يا بنى حين نصل إلى هذا الباب الملون أن نطرقه فى هدوء، ونرفع رأسينا لنرى السيدة التى ستطل من المساحة المواربة، وخلفها عتمة رائقة، تسبقها ابتسامة عذبة تكاد تضىء، ويغرد فمها بكلمات الترحيب المعهودة لديها:
- يا ألف أهلا وسهلا.

اسمها «سنية» ويدللها الناس هنا بـ«سونا».. لا شك أنها ستذكرنى، وستمد يدها لتصافحنى بحرارة، وفى المسافة المتراوحة بين يدى وأطراف أصابعها، سأستعيد زمنا جميلا، راح بلا رجعة.

ستقف أنت مندهشا أمامها، وقد تزاور عيناك بعيدا عن وجهها، متدثرا بلحيتك، وخجلك الذى لا يزال قائما رغم أنك قتلت كثيرين بلا تردد، هناك بين أسنة الصخر التى تمخر الفضاء.
هذه المرأة كانت راقصة كل القرى التى حولنا، يسمونها فى بلدنا «الغازية»، وتسمى هى نفسها «الفنانة الاستعراضية»، بعد أن التقطت هذا المسمى من التليفزيون ذات ليلة، أما أنا فأسميها بكل امتنان: «صانعة البهجة».

أرى ملامحك قد انقبضت، وربما تلعننى فى سرك، لكن ما لا تدريه أنت ومن على شاكلتك أن هذه السيدة التى اهتز جسدها أمام مئات الآلاف من العيون على مدار سنين، لم ترتعش تحت أى أحد سوى زوجها، ولما فارق الحياة، أغلقت باب الزواج، رغم كثرة خطابها، ولم يمسسها بعده بشر.

تعال هنا، لماذا تبتعد عنى خطوات؟ أتريد أن تهرب؟ هل مجرد سماعك كلمة «راقصة» تنفر، ويخف جسدك فوق ساقيك، وتسعى أن تطير من هذا المكان؟ ما يدريك أنها قد تكون عند الله أعلى منك وأقرب؟ وربما أعلى من شيخك الذى تكاد أن تعبده؟ لا ترفع عينيك فى عينى بغضب، فأنا أبوك، اعتبرنى أهذى، أو أجهل ما لك به علم، واعذرنى. لكنك لو كنت على علم حقا، لعرفت ما أقول، بل وفهمته. يمكن أن تكون أنت تعمل عمل أهل الجنة، أو هكذا تتصور، وقبل موتك بقليل تعمل عمل أهل النار، فتقلب فيها. وقد تكون هى فى نظرك تعمل عمل أهل النار، وقبل موتها بقليل تعمل عمل أهل الجنة، فترفل فى نعيمها. ألا تؤمن أنت بهذا، وتردده ليل نهار؟ لماذا تتنكر إذن لإيمانك؟ ألم أسمعك كثيرا تقول: الله تواب رحيم؟ ألم تقرأ فى كتاب الله: «قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا»؟

ومع هذا أنا أقول لك بكل ثقة إننى أرى هذه «الغازية» أبعد عن الذنوب من بعض شيوخك؟ لا تشوح لى بيدك هكذا، ولا تقل أف، ولا تنهرنى، وانتظر حتى أوضح لك قصدى، ولك حرية أن تفهم ما ستسمعه، تقبله أو ترفضه، لكننى أشعر الآن بضرورة أن أنبئك بكثير مما كتمته عنك، وأن ترحل فى صمت بعيدا عنى، وعن أمك المسكينة.

أجبنى عن سؤالى: ما الأشد حرمة: القتل أم الزنا؟ لماذا لا تجيب مع أن الأمر واضح لك أكثر من وضوح بوابة بيت الغازية أمام عينيك؟ لا بأس، سأجيبك أنا: القتل طبعا. وهنا أقول لك: كم مرة تسبب بعض شيوخك بتخرصاتهم وتحريضهم فى إزهاق أنفس الكثير والكثير؟. أما الغازية فلم ترتكب حتى الزنا، ولا يشغل بالها إغراء أحد، كما كانت تخبرنى دوما، أيام شبابى، بل إسعاد الجميع. وكما قلت لك: لم يلمس أحد أى بقعة من جسدها سوى زوجها.

إياك أن تعتقد أننى أكذب عليك من أجل تجميل القبيح، لأنتصر لما أذهب إليه من رأى، فأنت تعرف أن أباك طالما راجع نفسه حين اكتشف خطأه أو خطيئته، وما أنا هنا فى قريتنا، أمرّ بك على البيوت التى تحتضن كل هذه السنين، إلا لأكفر عن ذنبى حيالك، وأحاول أن أصحح خطئى. ومع هذا سأمد لسانى قليلا ليسرد عليك ما يرفع أى غشاوة عن بصرك، ويغسل آثار الشكوك التى تحيك فى صدرك.

فى صدر شبابى كنت مولعا بهذه المرأة، بل لا أبالغ حين أقول لك إن رجولتى تفتحت على شرودى فى مفاتنها، حين رأيتها ترقص ذات ليلة فى فرح ابن شيخ البلد. كانت تتلوى فيتماوج حولها الريح، وكانت ترفع قدميها عن الأرض حتى ظننت أنها ستطير. أرسلت عينى إلى جسدها الممشوق، وولعت بها، رغم أننى أصغر منها بخمس سنوات، ورغم أننى أسمع الناس تقول إن أمها كانت «غازية» أيضا، وجاءت إلى القرية ذات يوم من مكان لا يعرفه أحد.

ربما وجدت فى «سنية» مغامرة محرمة أيضا، وربما كانت هى لى مثلما تكون الفنانات والمطربات لأقرانى، يولعون بهن عن بعد، ويعلقون صورهن فى غرفهم، ويطيلون النظر إليهن، ويبحثون عن شبيهاتهن ليكن فتيات أحلامهم. لم أكن مثلهم، فجدى كان عاشقا مختلفا، وأورثنى بعض جنونه، فعلقت صورة «سنية» على جدران قلبى.

لم أفكر بالطبع فى الزواج منها، لكننى استحضرتها فاكهة حراما تقطعها أسنانى، فتملأ فمى، وأهضمها فى تلذذ، وقلت لنفسى: لا يحتاج الأمر سوى مبلغ معقول من المال. وتذكرت وقتها قول جدتك: «اللى تشتريه الفلوس، لا تشتهيه النفوس». قدمت عللا لا حصر لها لجدك حتى استدفَأ جيبى بما أريد، وسعيت بعدها فورا لأستدفئ بجسد «سنية» الذى يكاد أن يتطاير منه شرر.

فى ليلة راقبت أمها حتى خرجت، وطرقت الباب الذى لم يكن ملونا، فجاء صوت «سنية» الرخيم، ليهز خلاياى، ويطلق الدم الساخن فى عروقى، فقلت لها إننى أنا، وجئت فى أمر مهم.. واربت الباب قليلا، وقالت:
- لا يوجد أحد غيرى فى الدار.

ثم مدت ذراعها لتسد المسافة الضيقة التى كانت بين جسدها والحائط، لكننى تجاسرت ومرقت من تحت أبطها حتى وصلت إلى منتصف الصالة، وقلت لها:
- زيارة كلها فوائد.

لم تنطق، فاقتربت منها، ومددت يدى فى جيبى فأخرجت رزمة من النقود، وقلت لها:
- هى لك.

فامتلأ وجهها عجبا، اتسعت له حدقتاها، وبصوت تخامره الظنون:
- مقابل ماذا؟
- قبلة واحدة.

كان رهانى أنها لو تركتنى أقبلها مرة واحدة، فأرسل رحيقى ينبعث فى عروقها ويستقر فى قلب قلبها فتسقط فى الهوى، وبعدها يمكن أن ينفتح الطريق إلى كل ما أريد، بلا أى مقابل جديد.. لكننى أفقت من شرودى على صوتها يصرخ:
- أخرج برّه.

رفعت عينى لأستوعب ما يجرى، فوجدت ذراع «سنية» ممدودة عن آخرها نحو الباب، بينما وجهها يلتهب، فيحمر ضوء اللمبة الواهن عليه. دسست النقود فى جيبى، ثم غلى الدم فى عروقى، فطأطأت رأسى كأنى قد صدعت بالأمر، ثم فاجأتها بصفعة قوية، كادت أن تطرحها أرضا، وتأتى بالجمرات المختبئة تحت جلد بشرتها لتسقط تحت أقدامنا. وظننت أن تصرخ، وتمسك بتلابيبى، وتصنع لى فضيحة مدوية، لكنها فاجأتنى بقولها:
- لست رخيصة يا أستاذ.

فما كان منى إلا أن واجهت حكمتها بتنهيدة طويلة، ثم قلت لها:
- آسف على ما فعلت، وأرجوك أن يظل هذا سرا بيننا.

هزت رأسها، ولم أصدق يومها أن واحدة مثلها يمكن أن تصون السر، وظللت فى اليوم التالى أنظر فى وجوه الناس لعلى أجد عليها آثار ما جرى فى الليلة الفائتة، لكن شيئا من هذا لم يحدث، ومرت الأيام، ولم يتغير الحال. وها هى السنين قد مرقت، ولم يعرف أحد أبدا بما جرى. ولما أفقت من نزوتى راحت «سنية» تكبر فى نظرى، لم أعشقها، لكننى صادقتها بينى وبين نفسى، وكنت كلما جئت فى إجازة أيام الجامعة، أو بعد أن تغربت تماما فى زحام القاهرة، أحرص على أن أسلم عليها فى امتنان، حين ألتقيها فى الشارع، ذاهبة أو آيبة.

لم تمر «سنية» فى حياتى بلا أثر، فقد تركت فى نفسى علامة، إذ تعلمت منها ألا أحكم على أحد من ظاهره، ولا أبنى عنه رأيا من النميمة التى ينهش الناس بها عرضه. فمع الأيام سقطت بنات عائلات فى الخطيئة، وخانت زوجات أزواجهن، ممن يتوهم كثيرون أنهن شريفات عفيفات، بينما بقيت «سنية» على عهدها.

وكبرنا، تزوجت هى وأنجبت بنتا جميلة اسمها «رضوى»، أرسلتها إلى المدارس، وتزوجت أنا وأنجبتك وأرسلتك إلى مدارس أفضل بكثير. بنت «سنية» تعمل مدرسة لغة عربية فى مدرسة القرية، وسمعت أنها تحفظ ثلثى القرآن، وكثيرا من الشعر، وأنها علمت أمها كل شىء عن الصلاة والذكر، وتتصدى كل يوم لمدرس من بلدتنا ذى لحية يطلق الكآبة والكراهية حوله، ويزعم أنه يصدع بأمر الله.. أما أنت فلم تعمل شيئا إلا أن تصير قاتلا، هناك فى الجبال البعيدة.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مجموعات Google
اشتراك في اسد 2009 منوعات
ضع البريد الإلكتروني :
زيارة هذه المجموعة